فصل: مراسلة ملك المغرب ومهاداته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 مراسلة ملك المغرب ومهاداته

كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث إلى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين ايدغدي الشهرزوري من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس ومعه هدية حافلة من الخيل والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه وجملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم‏.‏ فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه بالتكرمة وبعث معهم أميراً لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم وعاد الرسول ايدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه ايدغدي البابلي وايدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست فقابلهم بما بجب لهم ولمرسلهم وأوسع لهم في الكرامة والحباء وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوفا بها ويعاينا مسرتها‏.‏ وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان وانطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج ولقوا السلطان أبا ثابت الجزولي من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم‏.‏ وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل‏.‏ ثم مروا بتلمسان وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراسن فلم يصرفا إليهما وجهاً من القبول وطلبا منهما خفيراً يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب وما كان من شأنه فبعت معهما بعض العرب فلم يغن عنهم واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم‏.‏ واستولى الأشرار على الركب بما فيه ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم‏.‏ وخلصوا برؤوسهم إلى الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان ببجاية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص من ملوك إفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم‏.‏ وسافر معهم إبراهيم بن عيسى من بني وسنار أحد أمراء بني مرين كان أميراً على الغزاة بالأندلس وخرج لقضاء فرضه فمر بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة فسار إليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين‏.‏ وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدة‏.‏ ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعاً إلى مصر وتقدم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب‏.‏ واستمد أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمده بالأموال والمماليك وكان سبباً لاستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى‏.‏

 وحشة الناصر من كافليه بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس

ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم وترددت بينه وبينهم السعاة بالعتاب وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل ودفعتهم الحامية وافترقوا‏.‏ وامتعض السلطان لذلك وازداد وحشة‏.‏ ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس‏.‏ وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففر بهم السلطان وأعتب الأميرين‏.‏ ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائباً عن صفد‏.‏ ثم غص بما فيه من الجحر والاستبداد وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار وسار على الكرك سنة ثمان‏.‏ وودعه الأمراء واستصحب بعضاً منهم‏.‏ فلما مر بالكرك دخل القلعة وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر وبعث عن أهله وولده مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه وأظهر الإنقطاع بالكرك للعبادة وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطاناً عليهم وسلار على نيابته‏.‏ وبايعوا بيبرس في شوال سنة ثمان ولقبوه المظفر‏.‏ وقلده الخليفة أبو الربيع وكتب للناصر بنيابة الكرك وعينت له أقطاع يختص بها‏.‏ وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله وأقر أهل الوظائف والرتب على مراتبهم‏.‏ وبعث أهل الشام بطاعتهم واستقر بيبرس في سلطانه والله تعالى أعلم‏.‏ انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم واتهم آخرون فقبض عليهم ونشأت الوحشة لذلك‏.‏ واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم‏.‏ ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الأفرم فتسكن الحال وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي ايدغلي وقطلوبغا تتضمن الأرجاف فثارت لها حفائظه وعاقب الرسولين وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيببرس وأصحابه بمصر ويقول سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني ووبعثوا إلي بالوعيد وإنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول ويستنجدهم ويمت إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه وإلا لحقت ببلاد التتر‏.‏ وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدماً بالكرك من عهد أقوش الأشرفي وأقام هنالك وكان مولعاً بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده‏.‏ وبث إليه ذات يوم يشكواه فقال أنا أكون رسولك إلى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يحب منهم‏.‏ وسار السلطان إلى البلقاء وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالخال واستمده بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر وكثر الأرجاف وشغبت العامة وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي استرابة بمكانهم‏.‏ ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته‏.‏ وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك‏.‏ ثم دس السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه وأعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين أقسنقر نائب حلب وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع ولحق به طائفة من أمراء دمشق‏.‏ وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان‏.‏ وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه‏.‏ وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء‏.‏ ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة والتكرمة وأقره على نيابة دمشق‏.‏ واضطربت أمور الجاشنكير بمصر وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرح في أثرهم العساكر فأدركوهم ونال الهاربون منهم قتلاً وجراحة ورجعوا وثاب العامة والغوغاء وأحاصوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان‏.‏ وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتواً وتحاملاً‏.‏ وارتاب الجاشنكير لحاله واجتمع الناس للحلف وحضر الخليفة وجدد عليه وعليهم الحلف وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنابر فرجع إلى النفقة وبذل المال واعتزم على المسير إلى الشام‏.‏ وقدم أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان وزاد اضطراب بيبرس وخرج السلطان من دمشق منتصف رمضان وقدم بين يديه أميرين من أقراء غزة فوصلاها واجتمعت إليه العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجو كندار وسيف الدين السلحدار وفاوضهم في الأمر فرأوا أن الخرق قد اتسع ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن اشهد الجاشنكير بالخلع وخرج من القلعة إلى أطفيح بمماليكه فلم يستقر بها وتقدم قاصداً أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة وخيول الإسطبل‏.‏ وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار وكاتب السلطان يطالعه بذلك وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن وهتف باسمه العامة في الطرقات‏.‏ وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردهم إليه بالأمان والولاية ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة‏.‏ ودخل السلطان إلى القلعة وجلس باقي العيد بالإيوان جلوساً فخماً واستخلف الناس عامة‏.‏ وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوال وأقام ولده بباب السلطان‏.‏ ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء واختاروا الرجوع إلى السلطان‏.‏ وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجو كندار أمير جاندار نائباً بمصر وقرا سنقر المنصور نائباً بدمشق‏.‏ وبعث نائبها الأفرم نائباً بصرخد وسيف الدين بهادر نائباً بطرابلس وخرجوا جميعاً إلى الشام‏.‏ وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضاً عن ضياء الدين أبي بكر ثم انصرف بيبرس الجاشنكير متوجهاً إلى صهيون وبها بهادر بها الأشجعي موكل به إلى حيث قصد ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه واعتقل بعضهم‏.‏ ثم بدا للسلطان في أمره وبعث إلى قرا سنقر وبهادر وهما مقيمان بغزة ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك والله تعالى ولي التوفيق‏.‏ خبر سلار ومآل أمره لما انتقل السلطان الناصر إلى ملكه بمصر وكان لسلار من السعي في أمر وتمكين سلطانه ما ذكرناه وكانت له ذمه عند السلطان يعتني برعيها له‏.‏ وكانت الشوبك من إقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها فيها فأذن له وخلج عليه وزاده في إقطاعه وإقطاع مماليكه واتبعه مائة من الطواشية بإقطاعهم‏.‏ وسار من مصر إلى الشوبك في شوال سنة ثمان وسبعمائة‏.‏ ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافاً إلى الشوبك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمي إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعاً وعلى شيع سلار وحاشيته المذين بمصر وبعث علم الدين الجوالي لاستقدامه من الكرك تأنيساً له وتسكيناً فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك وكانت شيئاً لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللآلئ والأقمصة والدروع والكراع والإبل‏.‏ ويقال أنه كان يغل كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار‏.‏ وأما أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاوون ولما مات صار لأبيه قلاوون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر‏.‏ وظهر في دولهم كلها وكان بينه وبين لاشين موده فاستخدم له وعظم في دولته متقرباً في المراكب متحرياً لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره‏.‏ ويقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائماً ومشى خطوات ثم مات والله أعلم‏.‏

 انتقاض النواب بالشام ومسرهم إلى التتر

وولاية تنكز على الشام كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قرا سنقر المنصوري في نيابة دمشق وولى مكانه بدمش سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة‏.‏ ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين اقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك‏.‏ وتوفي وبها محمد نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد‏.‏ ثم قبض على بكتمر الجو كندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار‏.‏ غم ارقاب قرا سنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعاً له عند السلطان فقبله ورده إلى نياية حلب‏.‏ ثم بلغ السلطان أن خوبندا ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قرا سنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على أن يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشوبك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى‏.‏ ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحيها بالكرامة‏.‏ وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات‏.‏ ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان فاتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قرا سنقر وأصحابه فاستدعاهم وعساكرهم وبعث على حلب سيف الدين مكان قرا سنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش‏.‏ وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا‏.‏ ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعاً وعلى أقوش الأشوقي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية‏.‏ وقبض على نائبه بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر يظاهر القلعة‏.‏ وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعاً فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام‏.‏ ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجاً من الكرك‏.‏ ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه‏.‏ ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك‏.‏ قلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ قد كان تقدم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمداً ولقبه المنصور‏.‏ وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزة بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولى ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هارباً إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل‏.‏ ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمر المنصور إلى مصر فأقام بها‏.‏ وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مر‏.‏ ثم سار قطز إلى الشام عندما رجع هلاكو عنه عندما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره ورد المنصور إلى حماة فلم يزل والياً عليها‏.‏ وحضر واقعة قلاوون على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها‏.‏ ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك‏.‏ ثم توفي سنة ثلاث وثمانين وأقر قلاوون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عندما بويع الناصر محمد بن قلاوون بعد لاشين وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قرا سنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على إقطاعهم‏.‏ ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر‏.‏ وكان كتبغا العادل الذي ملك مصر وخلعه لاشين نائباً بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة‏.‏ وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها‏.‏ وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من إقطاعه بالشوبك‏.‏ وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولداً اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفاً على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه ولى كتاب في التاريخ مشهور‏.‏ ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا وولاه على حماة مكان قومه سنة ست عشرة وسبعمائة‏.‏ وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي‏.‏ وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلنا ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين‏.‏ وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك‏.‏ ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمداً فكان أول شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة‏.‏ وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سمنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء لله وحده لا رب غيره ولا معبود سواه‏.‏ غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام مورياً بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وأضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه إلى أن تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم‏.‏ ثم سرح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة‏.‏ وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاؤوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه‏.‏ ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه‏.‏ ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالاً جمة‏.‏ والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ الولايات وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين بكتمر نائب طرابلس الذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمده به وسيق معتقلاً إلى مصر وولي مكانه سيف الدين كستاي‏.‏ ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائباً إلى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلاً وحبسه بالإسكندرية‏.‏ وبعث على صفد سيف الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم‏.‏

 العمائر ابتدأ السلطان

سنه إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة‏.‏ ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية‏.‏ وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحد الذي هو عليه بهذا العهد‏.‏ ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بازائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه‏.‏ وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخن بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

 حجات السلطان

وحج الملك الناصر محمد بن قلاوون في أيام دولته ثلاث حجات أولاً سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قرا سنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب‏.‏ وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجاً وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام‏.‏ ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة عن بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم‏.‏ عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصفحاً بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم‏.‏ وفي منصرفة من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه مما وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير‏.‏ وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إما في بيت السلطان وإما في بيته‏.‏ وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه‏.‏ أخبار النوبة وإسلامهم قد تقدم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقررها الملوك بعد ذلك‏.‏ وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عسكر المسلمين من مصر حتى بستقيموا‏.‏ وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاوون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون‏.‏ ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقباً لسمامون أو توسط بينهما متوسط‏.‏ وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس‏.‏ ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلي وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقاً وأقام عنده‏.‏ فلما كانت سنة عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلي المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفر إلى بلد الأبواب‏.‏ ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلي في ملك النوبة على حاله من الإسلام‏.‏ وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان‏.‏ ثم إن أهل النوبة اجتمعوا على نشلي وقتلوه بممالأة جماعة من العرب سنة تسع وبعثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر‏.‏ وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم‏.‏ ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملأوها عيثاً وفساداً‏.‏ وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا‏.‏ ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وثار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعاً لهذا العهد‏.‏ ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الإعراب‏.‏ ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحلته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والإلتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم قد كنا قدمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد أيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أوسير بن ليون‏.‏ وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكاً عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيراً ابن اثنتي عشرة سنة‏.‏ وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك‏.‏ ثم أمر الناصر كتبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها‏.‏ وأسر من الأرمن عدة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم إلى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضباً للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية‏.‏ ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة أياس ففتحوها وخربوها ونجا فلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم‏.‏ ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرطوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجريدة وسنباط كلا وتمرور‏.‏ وولى نائبين في أذنة وطرطوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم‏.‏ وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره إلى عشقيم فبعث بهم إلى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء لله وحدة انتهى‏.‏